وردت في القرآن الكريم آيات من قبيل قوله تعالى:
(( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ))[1].
وقوله تعالى:
(( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ))[2].
وقوله تعالى:
(( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ))[3].
وقوله تعالى:
(( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ))[4].
وقوله تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }[5].
هذه الآيات كما يقول بعض من يُشكل تنص على أن الله تعالى يؤتي الملك حتى للظالمين والفاسقين.
في الجواب أقول إن علينا أن نميز بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، وبين الملك بمعنى الحكم والسلطة والملك بمعنى الأموال وزينة الدنيا عموماً.
فما آتى الله من ملك لفرعون وقارون وغيرهم من الناس هو الملك بمعنى الأموال، وهذا خارج عن موضوعنا، فموضوعنا مختص بالملك بمعنى الإمامة والخلافة والحكم.
نعم فرعون ونمرود وغيرهما من الطواغيت المفسدين حكموا وتأمّروا على الناس، وحكمهم هذا لا يمكن لأحد أن يقول إن الله تعالى مرغم على السماح به أو إن إرادته والعياذ بالله قد قصرت عن منعه.
ولكن علينا أن نتبين جيداً أن السماح به يقع ضمن إطار الإرادة التكوينية لا الإرادة التشريعية التي هي محل النزاع.
وللتوضيح أقول إن الله قد جعل بموجب إرادته التشريعية أشخاصاً مخصوصين خلفاء وأئمة ولكنه تعالى لم يرغم الناس بإرادته التكوينية على أن يتبعوهم ويطيعوهم، بل ترك ذلك لهم فمن يؤمن بالله يطيعهم وينزل عند حكمهم ومن استكبر يتولى عنهم، وله في الآخرة العذاب.
وهكذا فرعون وغيره من الطواغيت إذا ما تمردوا على التنصيب الإلهي والإرادة التشريعية لله واغتصبوا مناصب من أمر الله بطاعتهم، لا يمنعهم الله بإرادته التكوينية عن فعلهم لأنه جزء من امتحانهم، ولكن لهم خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وعلى من يصر على أن الله قد آتى فرعون والطواغيت الملك، أن يلتفت إلى حقيقة مهمة وهي هل أنه تعالى راض عن حكمهم أم لا ؟ ولا يسع أحد أن يقول إنه عز وجل راض عن حكمهم، وإلا لماذا توعدهم بالعذاب ووصفهم بالفساد والطغيان، ولماذا نازعهم الملك أنبياء الله تعالى ؟
إن عدم رضا الله تعالى عن حكمهم يدل مرة أخرى على أن حكمهم وإن كان لا يمكن أن يكون خارج إرادة الله التكوينية إلا أنه حكم ليس بشرعي. لأن مشيئة الله أو إرادته التكوينية اقتضت أن يسمح بالكفر والإيمان للناس، فالله شاء للكافر أن يكفر وشاء للمؤمن أن يؤمن، لا بمعنى إنه جبرهم على هذا، بل بمعنى إنه ترك لهم أن يختاروا، فمن اختار الكفر لا يجبره الله على الإيمان ومن اختار الإيمان لا يجبره على الكفر، والإرادة التشريعية لا ترغم الناس على الإيمان، فالله تعالى يشرع للناس ولا يرغمهم على إتباع شرعه بل يمتحنهم بإتباعه أو عدمه، { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }[6].
ولعل فيما تقدم جواب لإشكال آخر مفاده إن الحاكم أو الخليفة الذي نصبه الله تعالى يُفترض أن يحكم فعلياً وعلى أرض الواقع، والحال إن الكثير منهم لم يحكموا فعلياً، فكيف يكونون منصبين ولا يحكمون؟
فجوابه أن حكمهم لا يرغم الناس على قبوله والنزول عنده بل الناس ممتحنين به، فإذا ارتضوا بمن نصبه الله رشدوا، وإلا فقد وقعوا في الضلالة.
قال تعالى:
( أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيماً )[7].
الآية تنص على أن الله تعالى قد آتى آل إبراهيم ملكاً عظيماً، ومعلوم أن من آل إبراهيم من لم يحكم فعلياً، حتى إبراهيم نفسه لم يحكم فعلياً بالمعنى الذي يريده المستشكل، أي لم تكن له دولة هو الحاكم المتنفذ فيها، ولكن من لم يحكم تقول الآية إن الله قد آتاه ملكاً عظيماً، فلابد أن يكون إتيانه الملك حقيقة شرعية وإن لم يخضع لها الناس ويمكنوه من ممارستها، وهم بعدم خضوعهم ضيعوا حظهم كما لا يخفى، دون أن يضر ذلك بحقيقة أن من لم يمارس السلطة الفعلية هو الإمام الشرعي.
يعترض البعض بشبهة مفادها أن الله تعالى قال:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[8].
ويقول إن الذي آتاه الله الملك في الآية هو النمرود، وبالتالي فإن الطواغيت أيضاً منصبين من لدن الله تعالى.
في الجواب أقول إن ما ينبغي أن نعلمه هو هل إن الله تعالى آتى النمرود الملك بالإرادة التشريعية أم التكوينية ؟
من يقول بالتشريعية يلزمه القول إن الله تعالى علواً كبيراً قد شرع حكم الطواغيت والظالمين، بل المشركين به تعالى، كما هو شأن النمرود الذي يحاج إبراهيم في ربه.
الحق إنه بالإرادة التكوينية، فالله تعالى لم يُرد بشرعه أن يكون النمرود وأمثاله حكاماً على الناس، ولكنه يمتحنهم بطاعة المنصب منه تعالى، وإذا اختاروا الكفر، وتغلبوا بالقوة والجبروت لا يمنعهم بإرادته التكوينية، وقدرته {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[9].
وهكذا يتضح إن معنى أن الله آتى النمرود الملك ليس هو أنه تعالى شرّع ملكه، وإنما يعني أن الله أعطاه من الأموال والأتباع ما بطر معه النمرود وتمرد على الله فاغتصب الخلافة والملك من أصحابه الشرعيين، والله تعالى لم يمنعه من هذا لأنه يريد امتحانه فيما آتاه.
فالله تعالى أراد لنمرود أن يطيع إبراهيم، قال تعالى: ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ).
[1] – القصص76 [2] – القصص77 [3] – القصص78 [4] – القصص79- 80 [5] – يونس88 [6] – الإنسان3 [7] – النساء54 [8] – البقرة258 [9] – يس82