أخرج البخاري[1] بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: ( لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى الله عليه وآله : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : قوموا عني، فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ( ص ) ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ).
وهذا الحديث مما لا كلام في صحته ولا في صدوره
وقد أورده البخاري في عدة مواضع من صحيحه[2]، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا من صحيحه أيضا[3]، ورواه أحمد من حديث ابن عباس في مسنده[4]، وسائر أصحاب السنن والأخبار، وقد تصرفوا فيه إذ نقلوه بالمعنى، لأن لفظه الثابت إن النبي يهجر ، لكنهم ذكروا أنه قال: إن النبي قد غلب عليه الوجع تهذيبا للعبارة، وتقليلا لما يستهجن منها، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة[5] بالإسناد إلى ابن عباس، قال: " لما حضرت رسول الله الوفاة ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال رسول الله : إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده ، ( قال ) : فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال : عندنا القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف من في البيت واختصموا ، فمن قائل : قربوا يكتب لكم النبي ، ومن قائل ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط واللغو والاختلاف غضب صلى الله عليه وآله ، فقال : قوموا . . . الحديث " وتراه صريحا بأنهم إنما نقلوا معارضة عمر بالمعنى لا بعين لفظه . ويدلك على هذا أيضا أن المحدثين حيث لم يصرحوا باسم المعارض يومئذ ، نقلوا المعارضة بعين لفظها، قال البخاري في باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد والسير من صحيحه[6]: حدثنا قبيصة حدثنا ابن عيينة عن سلمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، فقال : اشتد برسول الله وجعه يوم الخميس ، فقال : إئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، وأوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ( قال ) ونسيت الثالثة )[7]. هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا في آخر كتاب الوصية من صحيحه ، وأحمد من حديث ابن عباس في مسنده[8]، ورواه سائر المحدثين ، وأخرج مسلم في كتاب الوصية من الصحيح عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس، قال: ( يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إئتوني بالكتف والدواة ، أو اللوح والدواة ، أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقالوا : إن رسول الله يهجر)[9]. ومن ألم بما حول هذه الرزية من الصحاح ، يعلم أن أول من قال يومئذ: هجر رسول الله إنما هو عمر ، ثم نسج على منواله من الحاضرين من كانوا على رأيه ، وقد سمعت قول ابن عباس - في الحديث الأول[10] - : فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول : ما قال عمر - أي يقول : هجر رسول الله - وفي رواية أخرجها الطبراني في الأوسط عن عمر[11]، قال : " لما مرض النبي قال : إئتوني بصحيفة ودواة ، أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال عمر : فقلت إنكن صويحبات يوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن ، وإذا صح ركبتن عنقه ! قال : فقال رسول الله : دعوهن فإنهن خير منكم " .
وأنت ترى أنهم لم يتعبدوا هنا بنصه الذي لو تعبدوا به لأمنوا من الضلال ، وليتهم اكتفوا بعدم الامتثال ولم يردوا قوله إذ قالوا : حسبنا كتاب الله ، حتى كأنه لا يعلم بمكان كتاب الله منهم ، أو أنهم أعلم منه بخواص الكتاب وفوائده ، وليتهم اكتفوا بهذا كله ولم يفاجئوه بكلمتهم تلك - هجر رسول الله - وهو محتضر بينهم، وأي كلمة كانت وداعا منهم له صلى الله عليه وآله ، وكأنهم - حيث لم يأخذوا بهذا النص اكتفاء منهم بكتاب الله على ما زعموا - لم يسمعوا هتاف الكتاب آناء الليل وأطراف النهار في أنديتهم * ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) * وكأنهم حيث قالوا : هجر ، لم يقرأوا قوله تعالى : * ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثَمّ أمين وما صاحبكم بمجنون ) * وقوله عز من قائل : * ( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ) * وقوله جل وعلا * ( ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ) * إلى كثير من أمثال هذه الآيات البينات ، المنصوص فيها على عصمة قوله من الهجر ، على أن العقل بمجرده مستقل بذلك ، لكنهم علموا أنه صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما أراد توثيق العهد بالخلافة ، وتأكيد النص بها على علي خاصة ، وعلى الأئمة من عترته عامة ، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثاني في كلام دار بينه وبين ابن عباس[12]. وأنت إذا تأملت في قوله صلى الله عليه وآله : إئتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، وقوله في حديث الثقلين : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، تعلم أن المرمى فيالحديثين واحد ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم ، أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين.